الكتابة الحقيقية نوع من الانقلاب السلمي يقع في عقل الحاكم الواعي فيغير نظامه بيده قبل أن يأتي غيره ويغيره هو نفسه. الكتابة الحقيقية تمنحه فرصة ثمينة لهز الكيان القائم وخلخلة أركانه والتخلص من مجاذيبه الذين يدورون حول ضريح من الوهم خال من الأولياء. في ساعات قليلة قرأت ودرست واستوعبت كتاب "انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم"الذي كان منذ سنتين أكثر الكتب مبيعا في العالم كله قبل أن يترجمه ببراعة يحسد عليها محمد الخولي وتنشر طبعته العربية الدار المصرية اللبنانية وحصلت علي نسخة منها قبل أن ينزل الأسواق. مؤلف الكتاب هو الصحفي والروائي الكندي الشهير جون رالستون سول الحاصل علي الدكتوراة في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة لندن.. وفيه تنبأ بالأزمة المالية العالمية التي لفت حبل المشنقة حول رقبة البشرية.. في انتظار من يشده.. في أكبر عملية إعدام جماعي سيشهدها التاريخ. أعرف أن هناك من سينفخ في الهواء غاضبا وهو يلقي بما أكتب إلي آخر ذراعه قائلا: هل كان ينقصنا كلام عن العولمة؟.. ما فينا من مشاكل يكفينا.. اتركنا نتفرغ لمتاعبنا مع البطالة والتضخم والفساد والعنف والعشوائيات والفتنة الطائفية وتلوث الطعام بمياه المجاري وانفلونزا الخنازير.. سبنا في حالنا ندعو الله ــ الذي لم يعد لنا سواه ــ أن يرفع عنا كل هذا البلاء. والمؤكد.. أن كل"هذا البلاء"سببه حكومة قائمة.. آمنت بحتمية العولمة بنفس القوة التي آمنت بها بالله والحساب والعقاب واليوم الآخر.. ويصعب عليها رغم كل ما نعاني منها أن ترتد عنها وتكفر بها.. ومن ثم لا مفر أمام النظام السياسي سوي رحيلها لو أراد أن ينقذ نفسه وشعبه ووجوده واستمراره من شرورها وسوء سياساتها. إن أكثر التعريفات ملاءمة للعولمة أنها موجة دولية عارمة تصلح الحضارة بقيادة اقتصادية موحدة تفرضها الحرية التجارية لتصبح معها سلطة الدولة القومية ديناصورا في طريقه للانقراض والاحتضار لتشكل الثروة المدعومة بتكنولوجيا الاتصالات القوة الدافعة للأحداث الإنسانية دون الحاجة للجيوش المسلحة. وبهذه الرومانسية الإيمانية المغالية في المثالية سارع النظام في مصر باختيار رئيس حكومة من خارج السرب التقليدي ليسقط بخبرته في تكنولوجيا الاتصالات ما تبقي من الحواجز بيننا وبين الدنيا لنقدم بحماس أوراق اعتمادنا إلي بطريركية العولمة.. وعينت عددا من الوزراء ليكونوا رسلها المؤمنين بمعجزاتها السماوية المفتوحة.. لا يتمتعون سوي بخبرة البيزنس.. بكل ما فيها من خصخصة.. وتجارة حرة.. وسيطرة لشركات متعدية الجنسيات علي مساحات سرطانية من المؤسسات الحيوية.. مثل.. البنوك.. والموانئ.. والصحة.. والتعليم.. والعلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة. والمثير للسخرية أن هذه الحكومة التي كانت طارت من الفرحة يوم أن شعرت بعولمتها هي نفسها الحكومة التي سارعت بنفي أنها قادرة علي تجاوز الأزمة العالمية وكأنها حكومة"ذكية"تعرف كيف تستثمر العولمة وفي الوقت نفسه تعرف كيف تنجو من شرورها.. وهي نكتة سخيفة لا تضحك إلا البلهاء. لقد توسعت الدول في برامج الخصخصة وبيعت شركات حكومية في عشر سنوات بأكثر من 300 مليار دولار سرعان ما تبخرت دون أن"تجلب نمطا محددا للنجاح".. وبحلول نهاية التسعينيات" تحولت نزعة الخصخصة إلي حالة من الانكماش"وصلت إلي درجة الضآلة.. كان هناك المزيد للبيع.. ولكن السياسيين المحترفين"كانوا قد فقدوا حماسهم للعبة التي لم يروا من ورائها طائلا". وربما كان أسوأ ضروب الفشل هو الاعتراف بذلك الانفصام بين حرية التجارة والتنمية المحلية.. لقد راح الحيتان يأكلون الأسماك الصغيرة.. ويستحوذون علي مصانعها بدعوي أن الإنتاج الكثيف يضاعف الجودة ويخفض السعر.. لكن.. ما حدث أن شركة"نايك"التي تنتج حذاءها الرياضي في أندونيسيا بدولار وستين سنتا باعته في الأسواق المختلفة بسبعين دولارا ولم تستطع سلطة الدولة الهشة أن تتدخل لحماية مواطنيها وإلا رجمت بالكفر. ولم يجد الأفراد أمامهم سوي المزيد من الاقتراض كي يحافظوا علي ما هم فيه.. في عام 2004 بلغت ديون الأفراد ألف مليار جنيه استرليني.. ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل خمس سنوات. وأوضح ما منيت به العولمة من فشل هو عجزها عن الحفاظ علي العمالة.. لقد زادت البطالة بأعداد أكبر من زيادة السكان.. إن عدد العاطلين في أوروربا كان 30 مليونا في الثمانينيات.. وصل إلي 50 مليونا هذه الأيام.. وعلي مستوي العالم كله.. وصل الرقم العالمي إلي 800 مليون عاطل.. وتجاوزا المليار الآن. وإذا اتفقنا علي أن عائلة الطبقة الوسطي تستهلك اليوم أكثر مما كانت تستهلك منذ أربعين سنة فإنها رغم ذلك تجد نفسها تحت حزام الفقر.. فالشرائح الكبيرة منها تفي بالكاد باحتياجاتها الضرورية التي لا تزيد علي طعام مقبول وكساء رخيص ومسكن غير صحي.. أما فرصة العلاج الوحيدة فهي علي يد الدجالين والمشعوذين. وليس صحيحا أن العولمة أوقفت الحروب تاركة للاقتصاد التأثير الوحيد في التغيير.. فلو كانت الحروب قد قتلت 18 مليونا في فترة التحرر الوطني من الاستعمار (1945 ــ 1970) فإنها في حقبة العولمة (1970 ــ 2000) قتلت 22 مليونا.. بمعدل ألفي روح في اليوم الواحد. أضيف إليها ضحايا سوء التغذية وهؤلاء قفز عددهم من 12 مليونا عام 1979 إلي 25 مليونا عام 2003.. بخلاف ضحايا الأوبئة.. وعلي رأسها الإيدز الذي حصد في ظل رفع الحواجز بين المجتمعات المختلفة نحو 20 مليون مصاب في الفترة ما بين 1981 وحتي الآن.. بمعدل سنوي وصل مؤخرا إلي معدل 2.6 مليون سنويا. وروجت العولمة لقوة وهمية من قش هي منظمات المجتمع المدني غير الهادفة للربح واعتبرتها بديلا لجماعات الضغط السياسي المنظمة (الأحزاب والنقابات والقوي الطلابية في الجامعات) ولكنها لم تؤثر بفاعلية خارج حدود مقارها أو بعيدا عن التقارير مدفوعة الثمن التي تصيغها. إن هناك 50 ألف منظمة أهلية علي المستوي الدولي.. وأضعاف أضعاف ذلك الرقم علي المستويات المحلية.. في الولايات المتحدة مليون و200 ألف منظمة.. وفي فرنسا 45 ألفا مثلها.. وفي الفلبين 21 ألفا غيرها. وأغرب ما في حكومة العولمة المصرية أنها تولت المسئولية بتشكيلها الأخير بعد نحو عشر سنوات من إعلان الكفر العالمي بالعولمة.. لقد بدأت حركات الانقلاب علي العولمة في عام 1995 بإعلان المكسيك التوقف عن دفع فوائد ديونها الخارجية (85.4 بليون دولار).. وفجر تيموث مكفيه مبني البلدية في أوكلاهوما فقتل وجرح 968 شخصا لتسجل أولي حالات الخلل العقلي بسبب الضياع الاجتماعي.. وأعدم الكاتب النيجيري كينسارو ويوا هو وثمانية من مؤيديه بعد معارضته لسيطرة شركة «شل» علي بترول بلاده وتورطها في تزويد الشرطة بالأسلحة المتطورة التي ضاعفت بها السلطة الفاشية سطوتها المؤذية. وتوالت فيما بعد مظاهر انحدار العولمة.. منها انتفاضة القوميات والأقليات رغبة في الانفصال عن الدولة الأم.. كما حدث في الشيشان التي أدي ما حدث فيها إلي حرب كاملة قتل فيها 50 ألف شخص في 18 شهرا. ومنها تنامي الطائفية الدينية وسيطرة أحزابها المتطرفة علي الحكم كما حدث في تركيا وإسرائيل والهند.. مثلا.. بجانب حروب أصولية في باكستان وأفغانستان.. مثلا.. وما نشهده في مصر من جرائم قبطية إسلامية.. ودعوات لفصل الثقافة النوبية.. وتمرد من قبائل البدو الصحراوية.. يؤكد أننا اصبحنا في قلب الكارثة. ومنها توالي المتاعب الاقتصادية.. فقد أفلس في أندونيسيا وحدها 220 بنكا.. ووقعت دول نامية مثلنا تحت ما يسمي"فساد اقتصاد المحاسيب".. وانفجرت موجات من العنف الجنائي جعلت أكثر الناس وداعة يقتلون جيرانهم واقاربهم حسما لنزاع علي قروش قليلة.. والصحف المصرية تقدم كل يوم أكثر من دليل علي ذلك. ومنها سطوة الشركات متعدية الجنسيات التي أصبحت أكثر قوة من الحكومات.. فمن بين أكبر ثلاثين دخلا ماليا في العالم تمتلك تلك الشركات ــ وليس البلدان ــ معظم الإيرادات.. وفي عام 1990 كانت هناك 3000 شركة عابرة للقارات.. والآن يوجد منها 40 ألفا بخلاف 82 ألف تابع لها.. فتحت وزارة أحمد نظيف أبواب مصر لها علي مصراعيها لتستحوذ علي كيانات اقتصادية قائمة بكل ما ينتج عن الاستحواذ من بطالة وتضخم ونفوذ أجنبي متسلط لا تقدر أقوي الدول علي مقاومته. واخترعت العولمة ما سمي بقوانين الملكية الفكرية (التربس) واعتبرت الإبداعات العلمية والفكرية والفنية تجارة ودعمت احتكارات البرمجيات والعقاقير الطبية وهو ما حقق مليارات سهلة لشركات محتكرة علي حساب فقراء معدمين انعدمت فرصتهم تماما في العلاج بقرص دواء مجاني أو رخيص.. بل إن المسنين الأمريكيين أنفسهم لا يستطيعون تحمل أسعار الأدوية التي يحتاجونها.. لقد تاجرت العولمة في كل شيء بلا رحمة بما في ذلك صحة البشر. ويسهل الحصول علي تلك الأموال بالمضاربات.. إن سيتي جروب.. أكبر بنك في العالم مارس في 2 أغسطس 2004 عملية مضاربة ببيع كمية كبيرة من السندات الأوروبية مرة واحدة كانت كافية كي تعرض السوق للانهيار.. وبفضل التكنولوجيا السريعة باع منها ما قيمته 11 بليون يورو في دقيقتين.. ثم اشتراها مرة أخري بسعر أقل محققا ربحا مجزيا بلغ 15 مليون يورو.. ونجد مثل هذه الفضائح والمكاسب في البورصة المصرية ولو بما يناسب حجمها المحدود. ولا تنتهي المظاهر القاتلة للعولمة.. ويمكن لمن يرغب في مزيد من التفاصيل أن يعود للكتاب المهم المكتوب بلغة عربية متمكنة يبدو معها المترجم وكأنه المؤلف. لكن.. هل العولمة نوع من القضاء والقدر لم يعد أمامنا فرصة لتجاوزه؟.. إن الإجابة تتوقف علي مدي إيمان الحكومة المصرية بقوتها وشجاعتها وجرأتها وهي تعترف بعيوب العولمة قبل أن تفكر في البحث عن ملعب آخر.. ولو اعترفت بذلك فإنها يجب أن تعيد النظر في غالبية وزرائها.. وتغيرهم.. فلا يكفي أن أطلق اسم أسد علي فأر حتي يزأر. إن الإرادة الوطنية كانت العنصر الحاسم في ماليزيا لتلافي سرطان العولمة في وقت مبكر.. لقد أعلن رئيس حكومتها مهاتير محمد في صيف 1998"تحطيم معظم قواعد العولمة والتحرر من قيادة السوق الدولية".. فسحب العملة المحلية (الرنجيت) من التداول الخارجي وثبتها عند سعر منخفض لتشجيع الصادرات وحال دون تصدير رأس المال وضاعف من التعريفات الجمركية.. ورغم أن مؤسسة مورجان ستانلي طردت ماليزيا من مؤشر الاقتصاد الآسيوي فإن ما حدث أن ماليزيا صمدت وصعدت ونضجت وكبرت بينما مورجان ستانلي سقطت وتحطمت في أولي ضربات إعصار الأزمة المالية الحالية. وبعد عامين لحقت بها سنغافورة.. وقال زعيمها لي كوان يو:"إن العولمة يمكن أن تبدد القيم الأصيلة التي جمعت بلدنا علي صعيد واحد".. وكأنه يعيد صياغة القول الشهير للمفكر الإعلامي الشهير مارشال ماكلوهان:"إذا دسست شيئا في حلقك فسوف يتعين عليك أن تفرغ ما في جوفك". لقد انتهت دولة العولمة وعادت الدولة القومية للسيطرة.. فهل عرفت الحكومة المصرية الخبر؟. |